أربع طرق تؤثّر صدمة الطّفولة من خلالها على ازدهار مرحلة الشّباب
●
●
12 دقيقة للقراءة
●
––– مشاهدة
إنّ ما يحدث لنا في السّنوات العشر الأولى من حياتنا سيؤثرحتماً على باقي سنوات عمرنا التّالية، خلال هذه الفترة السّريعة من النّمو والتّطوّر،أجسادنا وأدمغتنا وشخصيّاتنا تطبعها تجاربنا المبكّرة، لهذا السّبب يمكن أن يكون لصدمات الطّفولة تأثيرٌ كبيرٌ على صحّتنا العقليّة والجسديّة وعلى رفاهيّتنا طوال سنوات حياتنا.
تختلف مسبّبات صدمات الطّفولة بشكلٍ كبيرٍ، بدايةً من الاعتداء الجسدي أو الجنسي والإهمال من قبل الأهل، مروراً بمشاهدة مظاهر العنف في المنزل، كلّ ذلك يعتبرمن الأشكال الشّائعة لصدمات الطّفولة، أضف إلى ذلك إمكانيّة أن يتعرّض الأطفال لصدمة علائقية - اضطراب في الرّابطة الأساسيّة مع الوالدين أو من ينوب عنهما في الرّعاية، كذلك يمكن للأحداث خارج المنزل أيضاً أن تحفّز الصّدمات ، بدءاً من التّنمّر الشّديد إلى الصّدمة الجماعيّة الناّتجة عن الأحداث الكارثيّة مثل الحروب أو الأوبئة.
ما تأثير صدمة الطّفولة على قدرة الفرد على الازدهار مع تقدّمه في السّن؟
فيما يلي أربع طرق يمكن أن تتجلّى من خلالها الصّدمة نفسيّاً وفسيولوجياً، عندما ينضج الأطفال في سنّ المراهقة ، ومرحلة الشّباب المبكّرة، وما بعد ذلك:
العلاقة بين الصّدمة وتقدير الذّات
إن الطّريقة التي يعاملنا بها الأشخاص المقرّبون إلينا منذ الولادة وما بعدها، أمرٌ أساسيّ في تشكيل إحساسنا بأنفسنا،هل نشعر بقيمتنا؟ هل نحن جديرون بالحبّ والرّعاية والاهتمام؟ إنّ الأطفال الذين تعّرضوا لسوء المعاملة أو الإهمال من قِبَل مقدّمي الرّعاية الأساسيين كالأبويين أو من ينوب عنهما، يستوعبون أو يتلقّون رسالةً مفادها أنّهم غير محبوبين، وحتّى في حالات الآباء المحبّين لكن الفاشلين في التّعاطف مع الّطفل بالقدر الذي يتطلّبه الأمر وتتطلّبه الطّبيعة البشريّة هؤلاء أيضاً قد يمرّرون للطّفل هذه الرّسالة من عدم الإحساس بالقيمة عن غير قصد.
في بعض الحالات عندما يعتمد الآباء على أطفالهم لتلبية احتياجاتهم العاطفيّة - بدل أن يقوموا هم بدعمهم عاطفيّاً كما هو واجب ومطلوب، يتعلّم الأطفال في هذه الحالة الدّرس التّالي : أنّ احتياجاته الخاصّة ليست مهمّة.
ونتيجةً لذلك ، يطوّر الأطفال الذين يتعرّضون للصّدمات النّفسيّة اعتقاداً أساسيّاً مفاده أنّهم ليسوا جيّدين بما فيه الكفاية، وقد يلومون أنفسهم على الطّريقة التي تتمّ معاملتهم بها ، معتقدين أنّهم لو كانوا "أفضل" بطريقةٍ ما ، فإنّ آباءهم"سيحبّونهم أكثر".
حتّى عندما يكون هذا الإدراك للذّات أوّ التّصوّر الذي يكوّنه الطّفل عن نفسه موجود في اللاوعي أو شبه الواعي ، فقد يكون من الصّعب للغاية عكسه لاحقاً في الحياة، فقد يتوصّل الفرد المتعرّض للصّدمة في النّهاية إلى فهم سبب تصرّف والديه بتلك الطّريقة التي أثّرت به سلباً - ويعلم أنّها ربّما بسبب صدمة طفولة خاصّة بالوالدين و لم تلتئم ولم يتمّ علاجها أو ربّما بسبب مرضٍ عقليّ أو جسدي، لكن مجرّد فهم سبب سلوك الأهل وربّما مسامحتهم والتّعاطف معهم قد لا يكون كافياً لتغيير الصّورة الذّاتيّة للطّفل البالغ والشّعور بقيمته الذّاتية.
علاوةً على ذلك ، فإن ّهذا الجرح البدائي أو الأوّلي كما تتمّ تسميته أحياناً ، يخلق بئراً عميقاً من الألم العاطفيّ، وبالتّالي فإنّ الشّباب الذين عانوا من صدمات الطّفولة وما يصاحبها من شعورٍ بالذّنب والعار هم أكثر عرضةً للمعاناة من الاكتئاب والقلق وعدم امتلاك آليات التّكيّف التي تقود إلى تعاطي المخدرات وإيذاء النفس.
تأثير الصّدمة على العلاقات في سنّ الشّباب
أثبتت الأبحاث أنّ الصّدمات المزمنة والنّاشئة عن خلل في العلاقات في السّنوات الأولى من الحياة لها تأثيرٌ هائلٌ على قدرتنا على تكوين روابط حقيقيّة مع الآخرين، حيث أنّ أوّل اتّصالٍ لنا مع الوالدين أو من ينوب عنهما في تقديم الرّعاية في حال غيابهما هذا الاتّصال الأوّلي يمهّد الطّريق لعلاقاتنا وتفاعلاتنا طوال حياتنا، فعندما تخلق هذه العلاقة المبكّرة الارتباك والخوف والعار وعدم القدرة على الاعتماد على الشّخص الآخر ، فإنّ هذه المشاعر تترجم وتنتقل إلى جميع علاقاتنا الأخرى - مع الأصدقاء والشّركاء الرومانسيين وحتّى الزّملاء في العمل والحياة الاجتماعية وأيضاً مع الشّخصيّات الذين هم في موقع سلطة كالمدراء وغيرهم .
غالباً ما يواجه الأشخاص الذين عانوا من أعراض صدمات الطّفولة صعوبةً بالغةً في الثّقة بالآخرين ومشاركة ما يخالج نفوسهم من أحاسيس وعواطف.
عادةً ما ينتج عن تخلّي أحد الوالدين أو مقدّم الرّعاية الأساسي ما يُعرف باسم التّعلّق غير الآمن، و هناك عدّة أنواع من التّعلّق غير الآمن ، والتي تعبّر عن نفسها بطرق مختلفة في العلاقات فقد يكون لدى الشّخص البالغ الذي تعرّض لسوء المعاملة أو الإهمال في طفولته أسلوب التّعلّق "المتجنّب غير الآمن" - فهو يتجنّب الاعتماد على الآخرين بسبب خوفه من الخيانة أو الرّفض.
الأشخاص الذين عانوا من الرّعاية غير المتّسقة من الوالدين غالباً ما يكون لديهم أسلوب ارتباط "قلق غير آمن": فهم متشبّثون ومحتاجون في العلاقات ، ويحتاجون إلى تأكيدٍ دائمٍ بأنّهم محبوبون من الطّرف الآخر.
بالإضافة إلى ذلك ، فإنّ الأطفال الذين اعتمد آباؤهم عليهم لتلبية احتياجاتهم العاطفيّة قد يصبحون "جيّدين ومفيدين للنّاس من حولهم" ، ويخافون من قول لا أو وضع حدود مناسبة مع الآخرين.
التّداعيات الصّحيّة لصدمات الطّفولة
استناداً لدراسة ACE الرّائدة ، والتي شملت أكثر من 17000 مشارك عن كيفيّة تأثير صدمة الطّفولة على الصّحّة الجسديّة والعقليّة لدى البالغين، أظهرت النّتائج أنّ صدمات الطّفولة تزيد من خطر إصابة الفرد بمشكلات الصّحّة العقليّة والأمراض المزمنة ، بما في ذلك هذه القائمة:
- الرّبو
- مرض القلب التّاجي
- الاكتئاب
- الانتحار
- داء السّكري
- السّكتة الدّماغية
- السّلوك المحفوف بالمخاطر مثّل التدخين
- السّرطان
- إدمان الكحول
- أمراض القلب والكبد والرّئة وأمراض المناعة الذّاتية
- تسارع شيخوخة الجسم والدّماغ
- الصّداع المزمن
يمكن أن تُعزى بعض هذه التّداعيات الصّحية طويلة المدى إلى ضعف الرّعاية الذّاتية بسبب مشاكل الصّحة العقلية، ومع ذلك وجدت الدّراسة أنّه حتّى المشاركين الذين لديهم أنماط حياة صحّية في مرحلة البلوغ كانوا أكثر عرضةً للإصابة باضطراباتٍ صحّيةٍ بسبب تأثير الصّدمة في مرحلة الطّفولة، و درس الباحثون عن كثب الآلية التي من خلالها تتفاقم المخاطر وخلصوا إلى أنّ الضّغط المستمرّ المرتبط بصدمات الطّفولة يؤثّر سلباً على الجهاز العصبي، و بمرور الوقت تؤدّي المستويات المرتفعة من الكورتيزول (هرمون التّوتر) إلى حدوث التهابات واختلالات تؤثّر بشكلٍ خطيرٍ على نموّ الدّماغ والجسم بطرقٍ لا تعدّ ولا تحصى.
صدمة الطّفولة تغيّر في الواقع حجم مناطق مختلفة من الدّماغ ، مما يساهم في التّأثير سلباً على الصّحّة النّفسيّة و إثارة الاضطرابات المصاحبة لها مثل تعاطي المخدرات.
قارنت دراسة نُشرت في يونيو من عام 2021 آثار المورفين (عقار أفيوني المفعول) على مجموعةٍ من الأشخاص الذين عانوا من سوء المعاملة والإهمال في مرحلة الطّفولة ومجموعةٍ ليس لديها تاريخ من الصّدمات في مرحلة الطّفولة. وجدوا أنّ المجموعة الأولى كانت لديها ردود فعل أقوى من المتعة والشّغف.
ترتبط صدمات الطّفولة أيضاً بارتفاع خطر الإصابة باضطراب تعاطي الكحول، حيث يشيرالبحث إلى أنّ صدمة الطّفولة تؤثّر على الدّماغ بطريقةٍ تخلق قابليّةً أكبر للإدمان.
كيف تؤثر الصدمة على القدرات المعرفية
وجدت الأبحاث أنّ قشرة الفصّ الجبهي ، وهي جزءٌ الدّماغ المسؤول عن الوظائف التّنفيذية ، هي في الواقع أصغر لدى الأفراد الذين عانوا من صدمة الطّفولة، فإلى جانب آثار الصّدمات النّفسية والجسدية في مرحلة الطّفولة ، كما نوقش أعلاه ، يمكن للأفراد أيضاً اختبار مشكلاتٍ معرفيّة - صعوبات في الذّاكرة والتّفكير المنطقي وحلّ المشكلات، يمكن أن تمنعهم قضايا الأداء التنفيذي هذه من تحديد الأهداف والتّخطيط للمستقبل والنّجاح في بيئات العمل أو في الأوساط الأكاديمية.
إلى جانب بنية الدّماغ ووظيفته ، يمكن أن تحدث الإعاقات المعرفية أيضاً بسبب الأنماط النّفسية المعتادة التي يطوّرها الطّفل غالباً نتيجة الصّدمة، فعندما يواجه الأطفال ضغوطاً مستمرّة فإنّ مواردهم تذهب بالكامل نحو النّجاة من هذا الضّغط، لذلك تتكوّن لديهم طاقة وتركيز واهتمامات أقلّ فيما يتعلّق بالتّعلّم واكتساب مهاراتٍ جديدةٍ واتّخاذ قراراتٍ مدروسة.
حتّى بعد انتهاء التّجربة الصّادمة ، فإنّ محفّزات الصّدمة والجهد المستمر لتجنّب مثل هذه المحفّزات يصرف مواردهم واهتمامهم بعيداً عن تلقّي معلوماتٍ جديدة، ومن ثمّّ ترتبط أعراض صدمات الطّفولة واضطراب ما بعد الصّدمة بالمشكلات التاّلية في مرحلة الشّباب وما بعدها:
- صعوبات التّعلّم
- عجز الذّاكرة
- مشاكل اللّغة
- التّحدّيات مع التّخطيط والتّنظيم
- حساسيّة أكبر للإجهاد الرّضحي في مرحلة البلوغ، والإجهاد الرّضحي هو عبارة عن اضطراب الكرب التّالي للرّضح (PTSD) وهو حالة صحّية عقليّة يستثيرها حدثٌ مخيفٌ — قد يحدث لك أو قد تشهده. قد تتضمّن الأعراض استرجاع الأحداث، والكوابيس والقلق الشّديد، بالإضافة للأفكار التي لا يمكن السيّطرة عليها بخصوص الحدث.
- ضعف القدرة على التّركيز والانتباه
- تدهور أسرع في الإدراك مع تقدّم الفرد في العمر
شفاء صدمة الطفولة
لا يمكن محو تأثير صدمة الطّفولة أو التّراجع عنه، ومع ذلك من الممكن شفاء الطّفل الدّاخلي.
لأنّ الصّدمة تترك بقاياها ليس فقط في العقل ولكن أيضاً في الجسم والجهاز العصبيّ ، لذلك فإنّ الوصول إلى اتّصال العقل مع الجسم يكون له تأثيرٌ قويٌّ في علاج الصّدمات، ويشمل العلاج الأكثر فعالية مجموعةً متنوّعةّ من الأساليب:
الطّرائق السّريرية
مثل العلاج السّلوكي المعرفي والعلاج السّلوكي الجدلي ، تعالج المعتقدات والأفكار الخطأ التي تغرسها الصّدمة.
الطّرائق التّجريبية
مثل العلاج بالموسيقى والفن ، والعلاجات الجسدية (القائمة على الجسد) ، مثل EFT و EMDR ، تسمح مثل هذه الوسائل للأفراد المتعرّضين لصدمات الطّفولة بالتّخلّص من الصّدمات من خلال الحركة والتّعبير عن الذّات غير اللّفظي.
العلاج باليوجا
يعمل هذا النّوع من العلاج على إعادة توازن الجهاز العصبي من خلال استخدام تقنيّات التّنفس الواعي.
في النّهاية فإنّ الهدف من وسائل العلاج جميعها هي أن يفهم الشّباب على المستويين العقلي والعاطفي والذين تعرّضوا لصدمات الطّفولة أنّهم يستحقّون الحبّ والرّحمة وقبول الذّات، وكلّما بدأ العلاج مبكّاً ، زادت فرصة الفرد البالغ لعكس الآثار السّلبية للتّجارب المبكرة على بقيّة حياته.